بقلم: محمد سالم عبد الفتاح
لا تزال مدفعية تصريحات القيادة الموجهة الى “صحراويون من أجل السلام” مستعرة، منذ ما يزيد على شهر كامل انقضى من عمر الحركة الوليدة، آخر المنضمين الى جوقة التهجمات الرسمية كان وزير خارجية البوليساريو محمد سالم ولد السالك الذي نفذ خرجته الاعلامية الحامية الوطيس ليلة البارحة على تلفزيون الجبهة الرسمي، حيث أعاد العزف على نفس أسطوانة الشعارات والمزايدات التي سبقته إليها بقية القيادات الديناصورية، والذين ظهروا بشكل مكثف خلال الشهر الماضي.
وزير الخارجية الأقدم في العالم الذي لا يزال يحتل نفس المنصب منذ ثلاثة عقود من الزمن الى جانب ممارسته للمهام القيادية منذ حوالي النصف القرن من الزمن، والذي لطالما شد الانظار بسيجاره الكوبي الذي يفاخر به اللاجئات المعدمات، لم يأتي بأي جديد في خرجته الاعلامية، ما عدى انغماسه بشكل أعمق في البروباغاد والدعاية الرسمية للبوليساريو، والقائمة على التحريض الأعمى على المخالفين وشيطنتهم، والترويج لخطاب الكراهية في حقهم، عبر إبرام محاكم التفتيش لتقييم نواياهم، ثم التوزيع المجاني لمختلف التهم الواهية عليهم، من قبيل الخيانة والعمالة للأجندات الاستخباراتية الخارجية، وغيرها من المزاعم المتحاملة.
ظهور ولد السالك جاء في سياق حملة اعلامية شعواء تشنها قيادة الجبهة، وبعد أيام قليلة من ظهور مشابه لزعيم البوليساريو براهيم غالي عبر خطاب رسمي، الى جانب بقية قيادات الصف الأول الديناصورية الأخرى بالجبهة التي أطلت بكثافة عبر لقاءات على تلفزيون البوليساريو، في مقدمتهم وزيرها الأول بشرايا بيون، مسؤول تنظيمها السياسي خطري آدوه، رئيس برلمانها حمة سلامة، ووزير داخليتها مصطفى سيد البشير، فضلا عن سفيرها في الجزائر الذي نشط لقائين صحفيين مع وسائل إعلام جزائرية في نفس المدة الوجيزة..,، زيادة على بيانين رسمين صادرين عن أمانة التنظيم السياسي، وآخر صادر عن بعثة الجبهة في الجزائر، جميعها خرجت بنفس لغة الشعارات الركيكة، وأحكام القيمة الجاهزة.
الملاحظ أن العناصر القيادية الديكورية التي لا تنتمي للدائرة القيادية الأمنية الضيقة، من قبيل خطري آدوه، ولد بيون، وولد السالك كانوا أكثر شراسة وعدائية في حق المخالفين من غيرهم، حيث لم يبدوا أي تحفظ في الرد على الأسئلة الاستنطاقية الموجهة اليهم، فوقعوا في فخ خطاب التخوين والاقصاء والاستئصال، في حين كانت القيادات المحسوبة على الدائرة الأمنية القيادية الضيقة أقل عدائية و”تحمجي”، ما يثبت بالفعل ما ذهبت اليه الكثير من التحليلات والتسريبات بوجود عصابة نافذة متحكمة في كل شيء بالبوليساريو، وغير خاضعة لمؤسساتها، لا تزال تتحكم في كل مفاصل التظيم، تضم في معظمها عناصر اللجنة التنفيذية التي لا طالما ارتكبت الجرائم والانتهاكات في مضى.
الغريب في الأمر أن ذات العناصر القيادية الديكورية التي تبدو متحمسة أكثر من غيرها للتحامل والنيل من المخالفين، كانت قد عانت في ما مضى من الاعتقال التعسفي من طرف مجموعة اللجنة التنفيذية الاجرامية، كما سبق أن نالت حقها من التخوين والتشهير، والاتهامات بالعمالة والاندساس، على إثر مشاركتهم في أحداث 1988 التي قادها القيادي السابق في الجبهة عمر العظمي، حيث صدرت آنذاك بيانات تحريضية رسمية في حق كل من خطري، ولد بيون، ولد السالك، وعبد القادر الطالب عمر… والعديد من القيادات الأخرى، فتم اعتقالهم وتعذيبهم على إثر تلك الأحداث، قبل أن تضطر الدائرة القيادية الأمنية الضيقة الى الدخول معهم في تفاهمات بعد أن تم إذلالهم بشكل مخزي، بإرغامهم معظمهم على الاعتذار وإعلان التوبة النصوح في منابر المهرجانات الشعبية وعلى رؤوس الأشهاد.
لكن الذي ميز ولد السالك هو المبالغة في الانغلاق والجمود، حيث لم يجد ما يسوقه من إنجازات عدى عن تلك التي تعود لحقبة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فحرص على اجترار ذات الخطاب السياسي القديم المليء بأحكام القيمة الجاهزة والمسبقة من قبيل الترويج لطروحات الجبهة الاقصائية والاستئصالية.
ولد السالك الذي سجلت في حقبته الطويلة كل الانكاسارات على المستوى الخارجي فتراجعت الاعترافات وكثرت النكسات، لم يجد ما يبرر به فشله الدبلوماسي، غير ممارسة “الهروب الى الأمام، بتزكيته لنفسه ولغيره من القيادات الاجرامية، وادعاء الوطنية الزائفة دون أن يرف له أي جفن، مدعيا ان كل مساس بالقيادة هو مساس بالشعب الصحراوي، وأن كل من خرج عن طوعها فهو إما “خائن” أو “عميل لجهات خارجية” توظفه لضرب “المشروع الوطني” حسب زعمه.
مرة أخرى تؤكد البوليساريو على ألسن قيادييها الرئيسين على انغلاقها الفكري، وعلى إخلافها لموعدها مع التاريخ، حيث تصر على اجترار خطاب دعائي تحريضي قديم، باعتبارها نظام سطاليني فاشيستي لا يزال حبيس لمنطق يعود لحقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بلغة أكل منها الدهر وشرب، يذكرنا بأدبيات الحرب الباردة ما قبل انهيار جدار برلين.
تصريحات تعمق واقع الفشل والتراجع المسجل في تجربة الجبهة على جميع المستويات، وتختم بذلك على شهادة وفاتها السياسية، بعد ما عجزت عن مواكبة تحديات القرن الحادي والعشرين على أبواب عشريته الثالثة، بل لتتجاوز الفشل السياسي والتدبيري الى الفشل الأخلاقي بتحجرها وانغلاقها ومصادرتها لحريات الناس ومحاولة ممارسة الوصاية عليهم، وبادعائها احتكار صكوك الوطنية في حين لم تقدم للوطن سوى المزيد من التأزم والانحرافات والتجاوزات الخطيرة.
إدعاءات من هذا القبيل هي ما يؤكد الاستنتاجات التي خلصت إليها “صحراويون من أجل السلام” في العديد من بياناتها وتصريحات مسؤوليها، من أن تنظيم البوليساريو بات غير قابل للاصلاح، بقيادته المتشبثة بالكراسي وبوهم السلطة وفقاعات الامتيازات التي ترفل فيها، بعيدة كل البعد عن واقع المعاناة الذي يعيشه معظم الصحراويين، ما يحتم فتح المجال لطروحات سياسية جديدة تطرح البدائل السياسية الكفيلة تعالج واقع الانسان الصحراوي المأساوي، وتتجاوز الانسداد السياسي الذي لا تزال قضية الصحراء الغربية حبيسة له.