كل أمم الارض خُلقت شعوبا و قبائل ، فلا يخلوا حيز جغرافي في المعمورة من تواجد نمط قبلي كان او لا زال قائماً .فقد كانت مؤسسة القبيلة حاضرة في تدبير شؤون الجماعة او جماعات حسب التنوع الاثنوغرافي لمنطقة النفوذ ، و لا زالت القبيلة الى اليوم مرجعا لشرعية دستورية و منفذا للسيادة و مصدرا لتقوية السلطة في بعض كيانات الدولة الحديثة ،في ما يطلق عليها بلدان العالم الثالث خاصة في اوطاننا الافريقية ،بعربها و غيرها من اعراق القارة الغنية ارثا و تراثا و تاريخا و ثورة .
و كغيرها من اعراق القارة ، تعتبر مجتمعات بني حسان و ” البيظان” ،قبائل ذوات انماط عيش و ترحال و تدبير شؤون حرب و سلم ، فهي قبائل بدوية بطبعها ، تختلف اعراقها و اصولها ، لكنها تتشابه الى حد كبير في لبسها و ركوبها و اساسيات غذائها و لهجتها، شرقاً من غربي النيجر مرورا بأزواد و تمنراست و تيندوف حتى الساقية الحمراء غربا ،و من نهر السينغال جنوبا مرورا بصحراء تيرس حتى وادي نون شمالاً ، هو مجالها ترحالها و عرين اسودها الذي سادت فيه لقرون طوال ، فلم تكن يوما تخضع لحكم سلطان من بني جلدتها ، فكانت تسلم شأن ولائها لسلطان ذو شوكة و هيبة حماية لها من اغارة بعضها على بعض او انفراد الاقوى بالطغيان على الاضعف او الاقل حيلة، فقد خضعت تلك المنطقة طوال قرون الى حدود بداية القرن التاسع عشر ،لحكم او تبعية السلطان في الدول السعدية ثم الدولة العلوية ، مع تمتعها بنوع من الاستقلالية في تدبير شؤونها الحياتية في اطار عرف حكم امير القبيلة او شيخها ، فقد كان المرجعية التي يحتكم اليها الخصوم ، فهو القضاء الساهر على فض النزاعات ،و الآمر الناهي المطاع حقنا للدماء ، فقد كان صاحب العمامة او صاحب الطبل او معمر اكبر خيمة تتوسط الخيام ” لفريك”..
ارتبطت القبيلة مع مؤسسة السلطان لقرون، كان لهذا الارتباط طابع المصلحة المشتركة ،تضمن من خلاله القبيلة للسلطان نفوذاً اوسع للدولة و حماية للثغور من اطماع التوسع ،و حركية اسهل للسلع و التجار و حماية البضائع ، كما ان السلطان مرجعية دينية و روحية بحكم وحدة الدين و حتى المذهب ،و هو سلطة سامية تصد ما لا تستطيع له القبيلة صداً ، لكن الحال كله خضع للتغيير مع بداية القرن التاسع عشر ، حيث طلعات التجار و المستكشفين الانجليز و الالمان و الفرنسيين و الاسبان ، و التي سبقت مجيئ قواها الامبريالية الى شمال افريقيا ، كمرحلة ستغير تاريخنا و تصبح المقرر لمصائرنا .من بين تلك الاراضين اقليم الصحراء ، حيث قبائل عاشت لقرون في ترحال و نمط عيش و اندماج و تمازج و انتشار ،قبائل اثثت لنمط حياتي يخصها عن غيرها من ناطقي الحسانية في الساحل و الصحراء ، فما هو وضع و مستقبل قبائل الصحراء في اطار خارطة الحلول بالاقليم المتنازع عليه ؟
لقد حافظت مؤسسة القبيلة الصحراوية لقرون على اعراق و انساب و كينونة المجتمع الصحراوي ، فرغم احداث صراعات و اقتتال تذكرها الرواية الشفهية و تحفظها الذاكرة الجامعة بين بعض و ليس كل قبائل الصحراء، الا انها لم تتجاوز حدود صراع الاخوة في ما بينهم ، فلم تنزل الى مستوى يعيق حالة السلم السائدة و الاحترام البادية و اعراف حسن الجوار بينها لقرون ،فقد كرست القبيلة في بعدها التراثي و الانساني قيم التسامح و سمو كلمة كبار القوم و صون كرامة المرأة و اقراء الضيف و السعي في الصلح حقنا للدماء .. فمع تطورات العصر و المتغيرات التي اجتاحت العالم كله منذ بداية القرن العشرين بانتقال الانسان من العيش في كفالة العشيرة او سلطة القبيلة الى الخضوع لنظام المؤسسات و حكم الدولة ، كان المجتمع الصحراوي لا زال منغلقاً على ذاته إبان فترة الاستعمار الاسباني للاقليم ، فلم تُلزم مدريد الصحراويين بالاندماج في اسلوب عيش الاسبان ، و لم تشركهم في نهج حكمها للاقليم الا بعد بروز نخبة متعلمة و مثقفة ظهرت في وقت متقدم من حكم الاسبان للإقليم خلال ستينيات القرن الماضي ، عرف انخرط خلالها الصحراويون في مؤسسة الحزب و الجمعية ، لكن وهن الدولة الاسبانية في فترة سبعينات القرن الماضي داخليا اثر على قوتها و سلطتها ،و هيمنتها بالتالي على الاقليم ، فانسحبت على ضوء اتفاقية مع المملكة المغربية ،تدير من خلالها الاخيرة اقليم الصحراء في اطار استكمال المغرب لوحدته الترابية ، فقد كان لتوقيت خروج اسبانيا من الاقليم اثر على جنين سياسي غير مكتمل الاعضاء في اقليم الصحراء ، جنين غايته تصويب ولاء الصحراوي من القبيلة نحو اندماجه الى الحياة المدنية و إحلال المواطنة المؤسساتية بديلا عن الانتماء القبلي في اطار الممارسة السياسية ، جنين لم يكتب له ان يلد من رحم فترة تواجد الاسبان بالاقليم ، لكن ظروفاً اخرى حلت بعدها لكتابة تاريخ المنطقة من جديد.
كان للمملكة المغربية رأي مخالف للاسبان نوعا ما في معرض تعاطيها مع القبيلة في الصحراء بعد المسيرة الخضراء، فشيوخ القبائل الصحراوية ربطتهم و لا زالت علاقات مباشرة مع سدة الحكم في المملكة ، فلهم من المكانة ما يحفظ للقبيلة هيبتها و تاريخها و رمزيتها ، كما تجد مؤسسة القبيلة لدى المنتظم الاممي في اطار مسلسل ايجاد حل نهائي و سلمي لقضية الصحراء مكانة سامية ، حيث تعتبرها سلطة تقليدية و مرجعية تاريخية ،لها المكانة في الخارطة لأي حل سيكون مستقبلاً.
ان تأثير القبيلة بمجتمعنا الصحراوي في الالفية الثالثة على وضعنا السياسي و الاجتماعي ،عرف تحوراً كبيراً جر القبيلة الى وضع يكون فيه الفرد حائرًا بين ولاءه الى مشروع المؤسسات الدستورية ، و بين ولاءه لتاريخ قبيلته مع بروز النزعة الفردانية و حالة التمرد على العادات و العرف في ظل تحول العالم من الانتماء بالاعراق الى الانتماء بالوطنية ثم الى البراغماتية السياسية و الاقتصادية، فأي مشروع سياسي ستقبل عليه المنطقة لن تكون القبيلة خارج معادلته ابداً ، لكنها ستكون خاضعة لقوة تعلوها سقفا و لسيادة تفوقها سيطرة ، و لتمرد جيل جديد متأثر برياح التغيير كما تأثرت من قبلهم اجيال ” بقيم العصرنة”، فهل القبيلة ككيان معنوي مؤهلة في المجتمع الصحراوي للتأقلم مع ذلك الوضع ؟ و ما مصير الفردانية في مجتمع ” اجْماعة” و نحن من يمثل مركز الصراع و موطن تقاطع مصالح المتنازعين على اقليم الصحراء ؟
تصون القبيلة ذاتها و الانساب المتفرعة منها ووحدة صفها، و تحفظ لأفرادها مكانتهم في النسيج التاريخي و الاجتماعي و التراثي للمجتمع الحساني الصحراوي ، و هذا ما يميزها و يضفي صفة الرمزية عليها ، فبإمكاننا ان غلّبنا قوة العقد الاجتماعي على نزعة الانتماء القبلي صياغة اطار مرجعي موحداً للصحراويين اقوى شرعية من مرجعية القبيلة ، حيث الحق و الواجب و سيادة القانون على العرف دون تغييب التمثيل القبلي في شقه الاستشاري دون التقريري، لتُرجَّح بذلك كفة المواطنة على الانتماء القبلي ، ثم ننتقل لمرحلة الأخذ بالمبادئ الديمقراطية و الميروقراطية في الآن نفسه ، حيث المزج بين الاستناد لصناديق الناخبين و التعيين المباشر اعتمادا على الكفاءة ، من خلال نموذج تدبير سياسي يخضع بشكل مباشر لسلطة المؤسسة الملكية و حكم ذاتي موسع يتسم بالشرعية حيث يجد صداً له في الاوساط الدولية المعنية بمراقبة الوضع بالاقليم و الطامحة لطي الملف بشكل سلمي . فالحل هنا اعلاه يتسم بالواقعية لا الاحلام و الشعارات ، خدمة للسلم و ارتقاءً بوضعية الانسان و ضمان عيش كريم و كرامة و حرية ممارسة سياسية و تثمينا للمقدرات التاريخية و التراثية لأهل الصحراء و من بينها كينونة البعد الرمزي لمكون القبيلة ،هذا المشروع يحده سقف لا يمس من سيادة المغرب على الصحراء ، و يمنح للصحراوي كفرد حرية تقرير مصيره داخل مقترح حكم ذاتي موسع يقرر عبرها آليات تدبير شأن اقليمه السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ، و يصون لمؤسسة القبيلة مكانتها في النسيج السياسي و الاجتماعي الصحراوي .
فهل نحن كصحراويين مؤهلون للانتقال من وضعية سلطة القبائل الى سلطة المؤسسات ؟
.بقادة محمد فاضل – رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بحركة صحراويون من أجل السلام